سنوحى المصرى ابن الجميزة (الجزء الثالث)

سنوحى المصرى ابن الجميزة (الجزء الثالث)
سنوحى المصرى ابن الجميزة (الجزء الثالث)
سنوحى المصرى ..... ابن الجميزة ...... (الجزء الثالث) :-
هناك من الباحثين من استهوته المقارنة بين قصة اغتراب سنوحى المصرى و قصة اغتراب يوسف العبرانى (ابن يعقوب) و لكن القصتان بهما من التناقض أكثر مما بهما من التشابه .
فنجد سنوحى المصرى يصف فى قصته المنطقة التى عاش بها فى الشام و ما بها من وفرة فى المحاصيل و الفاكهة و الماشية و كان النبيذ فى تلك المنطقة أكثر وفرة من الماء (كناية عن توافر الطعام و الشراب) و برغم ما حظى به سنوحى من مكانة اجتماعية حيث تزوج ابنة ملك ريتينو و أنجب أطفالا و امتلك قطعانا من الماشية الا أن روحه كانت تتعذب بسبب الغربة و البعد عن الوطن / الأصل . فسنوحى لم تستهويه الغربة برغم ما فيها من متع مادية و لم يشعر قط بالسعادة و الهناء , بل كانت روحه تتعذب بسبب الحنين الى الوطن .
و فى المقابل تخلو قصة يوسف العبرانى من أى حنين للوطن بل العكس , فقد ساعد على اغتراب أخوته أيضا .
فالشخصية العبرانية على النقيض تماما من الشخصية المصرية , وتفتقر الى النزعة الروحية الفلسفية التى تتميز بها الشخصية المصرية .
أما عن سبب اغتراب سنوحى , فنجد أن القصة بنيت على اخفاء هذا السبب . فسنوحى يكرر فى أكثر من موضع فى القصة أنه لا يعرف ما السبب الذى جعله يهرب من مصر , فلم يوجه اليه أحد اتهاما و لم يصح صائح باسمه فى المدينة (كناية عن التشهير به) , و لم يجبره أحد على ترك مصر . و هو لا يملك أى تفسير لهذه الغربة سوى أنها كانت خطة الهية وضعت له و أنه كان يسير حسب الخطة التى رسمتها له الأقدار .
و هذا الابهام لسبب غربة سنوحى هو أيضا رمز لابهام سبب وجود الانسان فى هذا العالم المادى الذى يعتريه النقص و الألم و المرض و الموت . فالانسان فى الأصل كائن روحى كان يعيش بوعى كامل (كونى) فى ماضيه البعيد و فجأة هبط ليسجن داخل جسد مادى و يصبح أسير الوعى المادى , يعى الكون من خلال 5 حواس فقط .
أدركت الحضارات و الفلسفات القديمة أن الانسان فى الماضى البعيد كان له وجودا أرقى , و لكنه هبط من ذلك الوجود الأعلى الى الوجود الأدنى فى العالم المادى ليصبح سجينا فى جسد مادى فانى . و اختلفت الفلسفات فى تفسير أسباب ذلك الهبوط فمنهم من افترض وجود خلل ما فى منظومة الطاقة فى الكون أدت الى هبوط الكيان الانسانى الى الوجود الأدنى / المادى , و هناك القصة التوراتية
الشهيرة , قصة الشجرة المحرمة ,.
و لكن الى الآن لا يعلم الانسان على وجه اليقين أسباب هبوطه الى العالم المادى , و هذا هو السؤال الذى تبحث أرواحنا دائما عن اجابه له طوال رحلتنا على الأرض .
عندما استبد بسنوحى الشوق الى الوطن أرسل رسالة الى الملك "سن – أوسرت" يطلب منه أن يسامحه لأنه ترك الخدمة فى الجيش فى وقت عصيب كانت تمر به مصر .
و جاء رد الملك "سن – أوسرت" قائلا له : عد الى مصر يا سنوحى فقد أصبحت شيخا كبير , وقد يأتيك الموت فى أى وقت و لا يجدر بأحد نبلاء مصر أن يلقى بعد موته فى حفرة ملفوفا فى جلد شاه كما يفعل الآسيويين .
عد الى مصر لكى تحظى بطقوس الدفن المصرية , و تحنط و تدفن فى مقبرة مثل النبلاء , مقبرة بها من نصوص "حكمة الموت" ما يساعد البا على المرور بسلام الى الدوات (العالم الآخر) و بها من القرابين ما يغذى الكا منذ يوم دفنك الى أن يعود أوزوريس الى الأرض مرة أخرى .
عد الى مصر يا سنوحى , و عندما تمر من بوابة طيبة العظيمة المزدوجة لا تنسى أن تنحنى و تقبل تراب مصر المقدس .
و هذا التعبير بشكل خاص هو أحد القيم الراسخة فى ضمير كل مصرى , فما زال المصرى حتى يومنا هذا عندما يعود الى مصر بعد فترة غربة يعبر عن شوقه الشديد للوطن بأن يسجد مقبلا تراب مصر .
طار قلب سنوحى من الفرح عندما تلقى جواب الملك "سن – أوسرت" يدعوه للعودة الى مصر , فترك سنوحى كل شئ كان يملكه لأبنائه و عاد الى مصر خاوى الوفاض من أى مال . فاستقبله الملك سن – أوسرت بمودة و ترحيب و منحه ضعف ما كان يملك قبل أن يترك مصر .
و عاش سنوحى أيام شيخوخته فى مصر يجهز مقبرته و سجل قصته على جدرانها ليخلد لآلاف السنين أجمل قصة حب فى التاريخ ... حب الوطن / الأصل ...... و الحنين الى الأم / الأصل . فها هو سنوحى (ابن الجميزة) قد عاد الى الأم/ الجميزة/ السماء ... بعد غربة فى العالم المادى , استسلم خلالها للأقدار و لكن فى النهاية أدركته الرحمة الالهية .

ضع تعليقك